القائمة الرئيسية

الصفحات

هل اليقين الرياضي مطلق أم نسبي ؟ مقالة جدلية بكالوريا 2024

هل اليقين الرياضي مطلق أم نسبي؟

مقالة اليقين الرياضي مكتوبة كاملة

مقالة جدلية موضوعها عن اليقين الرياضي وهل هو مطلق أم نسبي؟ مكتوبة كاملة وجاهزة للإستخدام موجهة على وجه الخصوص لطلبة سنة ثالثة ثانوي جميع الشعب باعتبارهم مقبلين على الإمتحان الرسمي وهو شهادة البكالوريا 2024.
مقال فلسفي مرشح بقوة هذا العام مكتوب بالتفصيل  بطريقة الجدل مع فقرات سهلة ومفهومة وأفكار مرتبة ومسترسلة ،كما يمكن لتلاميذ البكالوريا الإطلاع على عناوين مقالات أخرى تخص شهادة البكالوريا  لهذا العام مع نصائح للطلاب قبل الإمتحانات.
تابعوا المقال كاملا فيما يلي:

مقدمة المقال

إن إستقراء تاريخ الفكر البشري يثبت بأن الرياضيات من أقدم المعارف الإنسانية نشأة و ترتبط بشتى مجالات الحياة ، لذلك إتجهت مختلف العلوم إلى محاكاتها والإستناد إليها، ناشدة بذلك الدقة والوضوح اللذان تتصف بهما. هذه المميزات التي بقيت مشهودا عليها إلى مراحل متأخرة من تاريخ العلم، والتي حملت إلى الشعور باليقين المطلق في الحقائق الرياضية. إلا أن تطورها مع بداية العصر الحديث، كشف عن معطيات جديدة، و نقلها إلى واقع جديد. و هنا أصبح الشعور باليقين المطلق في نتائجها يتبدد شيئا فشيئا، ما جعلها كالكثير من مفاهيم العلوم ينظر إلى دراساتها ونتائجها من زاوية الحقائق النسبية. هذا ما ولد جدالا ونقاشا حادا بين الفلاسفة والمفكرين حول قيمة النتائج الرياضية، بين من يرى بأنها يقينية مطلقة، وبين من يرى غير ذلك ويؤكد نسبيتها، هذا ما يدفعنا لطرح الإشكال التالي: ما قيمة النتائج التي تصل إليها الرياضيات؟ وهل اليقين الرياضي مطلق أم نسبي ؟

الموقف الأول

يرى أنصار الموقف الأول بأن الرياضيات من أكثر العلوم صرامة وأكثرها تعبيرا عن تماسك العقل ، باعتبار الرياضيات لغة المفاهيم والصور العقلية المجردة والتي تعبرعن المعارف اليقينية التي تتصف بالدقة والمطلقية، ولهذا فهي تحتل النموذج الأرقى الذي تطمح إليه كل المعارف الأخرى.

  وقد اعتمد أصحاب هذا الموقف والذين نجد منهم بيكار و كانط على المسلمة القائلة أن « الرياضيات هي المفاهيم الأكثر بساطة والأكثر وضوحا وأنها مفاهيم ثابتة مترابطة فيما بينها مطلقة لا شك فيها » ، وهذا ما أثبته الكثير من العلماء والفلاسفة والرياضيين بلا إستثناء، ويرجع ذلك إلى طبيعة المنهج «الإستنتاج الرياضي»، فالمعرفة الرياضية معرفة قطعية في خطتها ونتائجها و معرفة بوجود تم تجريده ، ونتائجها بعيدة عن كل مادة حسية لأنها تتعامل مع كميات ومقادير بعيدا عن الكيفيات ، تعبر عن منظومات ذهنية متعددة الصور.

 كما أن النتائج الرياضية تتصف بالإنسجام مع مبادئها ومنطلقاتها التي أنتجتها، وكذا الإلتزام بالإتساق والتوافق ومراعاة مبدأ عدم التناقض، حيث تنطلق من مقدمات تجعلها مطلقة بالإعتماد على مبادئ هي: البديهيات، المسلمات، والتعريفات، التي تساعد على التسلسل المنطقي خاصة في الإنتقال من البسيط إلى المركب، وفي هذا يقول ديكارت « الرياضيات مجموعة من السلاسل العقلية الجميلة والبسيطة والسهلة في نفس الوقت » ، ومن ثم الوصول إلى نظريات ونتائج لا تتناقض مع تلك المبادئ، أي إنسجام الفكر مع نفسه بدليل إعتمادها على البديهيات وهي " قضايا أولية يصدق العقل بها، تكون عامة وواضحة بذاتها " ، حتى ظل ديكارت معجبا بفكرة البداهة واعتبرها من المبادئ الفطرية ، كما أنه بنى منهج الفلسفة عليها بقوله : ( لا تصدق إلا ما هو بديهي) .

كما أن اعتماد الرياضيات على المسلمات يوفر لها الأرضية الجاهزة لتكون خصبة ، لأنها قضايا يضعها الرياضي من أجل بناء براهينه، وهي تختلف من رياضي إلى آخر لهذا فإن نتائج الرياضيات تعبر عن الإبداع والإبتكار وفعالية العقل ، إنها تتصف بالخصوبة وليست مجرد تكرار للمقدمات ، يقول ديكارت ( القياس المنطقي عقيم، أما الإستدلال الرياضي فهو منتج ).

 أفلاطون هو الآخر ينظر إلى الرياضيات بمنظار القداسة، حيث إشترط دخول أكاديمية التمكن من الرياضيات في قوله :  ( من لم يكن رياضيا فلا يطرق بابنا ) ، وهي نظرة تخرج المرء من البحر إلى شاطئ الوجود المعقول ، وتعود العقل على الحقيقة الأزلية، لأنها يقينية لا يرتقي إليها الشك والإحتمال.

 كما نجد كانط الذي يعتقد أن الرياضيات حقائق مطلقة، وأنها وحدها تنفرد في إمتلاك التعريفات التي لا تخطئ، فالمربع مثلا كمفهوم ذهني هو مجرد يتجلى في أذهاننا واضحا بسيطا ليس فيه أي غموض ولا يرتبط بغيره إلا بعلاقة كمية، وفي نفس الوقت حقيقة ثابتة ومطلقة. كما أن الرياضي عندما يستدل فإنه ينطلق من أولويات ومبادئ عامة وواضحة بذاتها ومعروفة الصفات والخصائص، ليستنتج منها قضايا جديدة مرتبطة ومنسجمة مع مبادئها منطقيا، لهذا يصرح بوريل أن الرياضي يعرف ما يصنع وما يبدع على أساس الملاءمة واليقين ووفاء تفكيره لمنطلقاته وعدم تناقضه معها ، وهذا ما يعني اليقين في المعاني والعلاقات الرياضية.

 إضافة إلى تصور كل من أرسطو وإقليدس للبرهان الرياضي على أنه أكثر البراهين تماسكا وقوة. واليقين المطلق للرياضيات إرتبط بالهندسة الإقليدية لكونها قريبة من الواقع والتجربة، على اعتبار أن الفرضية الجوهرية التي تقوم عليها هذه الهندسة، هو إفتراض "المكان سطح مستوي" وما جاءت به من نتائج مثل: 

من نقطة خارج مستقيم لا يمر إلا مواز واحد.

 كما يعود ذلك إلى اللغة الدقيقة التي تستخدمها من لغة الرموز يقول بيكار ( لغة ذات قوة عجيبة في التنبؤ والتغيير) .

نقد الموقف الأول

صحيح ما ذهب إليه أنصار الموقف الأول في قولهم بأن الرياضيات تمتاز بالدقة، ولكن ما يعاب على ذلك هو أن الحقائق الرياضية المتصفة بالصدق واليقين عندما تنزل إلى التطبيقات التجريبية تفقد دقتها وتقع في تقريبات وإحتمالات، أي أن التعامل معها واقعيا يفقدها مطلقيتها ويقينها التام، مثل قولنا:

 22 /7 تساوي بالتقريب 3.14 ، لكن 7 * 3.14 لا تساوي 22، و هكذا إنتقلت الرياضيات من دقيقة إلى تقريبية. يقول أينشتاين (( إن الرياضيات بقدر ما ترتبط بالواقع بقدر ما تكون غير يقينية، وبقدر ما تكون يقينية بقدر ما تكون غير مرتبطة بالواقع)).

الموقف الثاني

وعليه يرى أنصار الموقف الثاني أن التطور والدقة التي تظهر عليها نتائج الرياضيات (كما يقال) ، لم يشفع لها بأن تتصف باليقين المطلق، ليس هذا فحسب بل إن تطورها مثلما يرى البعض قد أفقدها ذلك الشعور باليقين تجاه قضاياها ونتائجها. وفي هذا الصدد يقول نيكولا بورباكي « منذ اليونان والناس يعتبرون الرياضيات مرادفة للبرهان، بل إن بعضهم ليشك في إمكانية الحصول على براهين خارج الرياضيات بالمعنى الدقيق الذي أضفاه اليونان على كلمة برهان... صحيح أن هذا المعنى لم يتغير لأن ما كان يعتبره إقليدس برهانا هو كذلك بالنسبة إلينا نحن ولكن صحيح كذلك أنه قد تم إضافة إلى هذا الميراث الجليل منذ قرن إنجازات هامة جدا » ، هذا ما يعبر على أن المفاهيم الرياضية قد تغيرت لذلك علينا تغيير النظر إليها ، ويعود هذا إلى كون الرياضيات المعاصرة أصبحت مجرد أنساق إفتراضية يسلم بها العقل من الصعب تحديدها أو الحكم عليها لأنها إختبارات يضعها العالم الرياضي وفق إنسجام منطقي معين، لهذا فهي تعبر عن ممكنات إفتراضية ، مثل " بديهية الكل أكبر من الجزء" هي مجرد فرضية في هندسة بونكاريه  ، وفي عالم الإحتمالات التي تؤكد نسبية الرياضيات وكذلك من خلال زهرة  النرد، وبالتالي لم يعد للبديهية الواضحة بذاتها أي معنى.

  لقد كانت البداية مع ظهور الهندسة اللاإقليدية، هذه الأخيرة التي مست اليقين المطلق للهندسة الإقليدية حيث بدأ الرياضيون والمناطقة يتساءلون حول البديهيات والمسلمات والتشكيك في صدقها، حيث نجد هندسة ريمان الذي إفترض المكان كرويا بحسب كروية الأرض وبذلك توصل إلى نتائج مختلفة عن تلك التي توصل إليها إقليدس مثلا : (( من نقطة خارج مستقيم لا يمكن إنشاء ولا مواز له )) ، كما نجد هندسة لوباتشيفسكي الذي خطى على منوال ريمان لكنه إفترض المكان مقعرا فكانت نتائجه هو الآخر مختلفة مثلا : (( من نقطة خارج مستقيم يمكن أن يمر أكثر من موازي له )).

ثم بعد هذا ظهور الصياغة والمنهج الأكسيوماتيكي '' النسق المعاصر'' في مجال الهندسة، والذي يعبر عن منهج (نسق) فرضي إستنباطي، أي نضع فرضيات ونستنبط منها قضايا معينة بطريقة منطقية، يقول نيكولا بورباكي في كتابه هندسة الرياضيات  (( إن الرياضيات في المنظور الأكسيومي هي عبارة عن خزان من الصور المجردة، إن المنهج الأكسيومي صناعة صورة محضة )) ، وظهور هذه الهندسات والأنساق المختلفة قد مس بيقين الرياضيات، يقول بوليغان (( كثرة الأنظمة في الهندسة دليل على أن الرياضيات ليس فيها حقائق مطلقة )). وتبع هذا بإتجاه الجبر إلى التجريد وإبتعاده عن الواقع، وهذا ما جعل بوليغان يقر بإنحطاط المبادئ المطلقة في الرياضيات، وسخرالفيلسوف راسل من هذا بقوله " إن الرياضيات هي العلم الذي لا يعرف عما يتحدث ولا إذا كان ما يتحدث عنه صحيحا".

نقد الموقف الثاني

صحيح ما ذهب إليه هؤلاء في أن الرياضيات قد مسها نوع من الإحتمال والنسبية، لكن رأيهم يعني بأن الرياضيات ما هي إلا ضرب من العبث والتجريد العقلي الذي لا فائدة منه، رغم أن كل الدلائل تثبت أن الرياضيات هي التي تمسك بأدق المفاهيم وأنها لغة كل العلوم. كما أن راسل قد وضعها موضع الإرتياب والشك رغم أن الرياضي في كل عملياته يضع نسقه ويشرطه بعدم التناقض ويلتزم بمسلماته إلى نهاية إستدلاله.

 كما أن الرجوع إلى الواقع وملاحظة واقع العلوم المعاصرة دون إستثناء، يبرهن بوضوح أن الرياضيات هي لغة الدقة واليقين، فالفيزياء الرياضية لم تنشأ إلا يوم فكر يوهانس كيبلر وغاليليوغاليلي ونيوتن في إستخدام الأعداد من أجل معرفة الكون، كما أن ملاحظة لغة الإعلام الآلي والمعلوماتية المعاصرة ودقتها، دليل جازم على دقة الرياضيات وحقائقها اليقينية، ولعله قد اكتشف هذه الحقيقة المعبرة عن اليقين الرياضي، فجعل الوجود المعقول وبلوغ الحقائق العقلية ينطلق من إستخدام الرياضيات، لهذا يقول: ((الرياضيات تجبر النفس على إستخدام الذكاء الخالص من أجل الحقيقة في ذاتها)) . يقول أوغست كونت (( آلة ضرورية لجميع العلوم)).

التركيب

إن الجدل القائم بين المفكرين والفلاسفة حول اليقين الرياضي، يدفعنا للقول بأن اليقين والصدق في الرياضيات الحديثة لا يتحدد ولا يكتسب قيمته إلا إذا أدرج في النسق الذي ينتمي إليه، وبالتالي هو لا يتزعزع ولا نشك في قيمته إذا حكمنا عليه في نطاق أنساقه وسياقاته البرهانية، ما دام الرياضي وفيا ومنسجما مع مبادئه التي ينطلق منها . لكن هذا لم ينقص من قيمتها، بل أهلها لأن تكون أخصب العلوم وأكثرها إبداعا، وبالتالي تكون سيدة العلوم وخادمها ، مما جعل كل العلوم تسعى لإعتماد لغتها والإستفادة من طرقها البرهانية من جهة الوضوح والدقة. لهذا صح أن نقول بأنها سيدة العلوم وعن لغتها بأنها لغة العلم ، يقول الفيلسوف الفرنسي برغسون (( إن العلم الحديث وليد الرياضيات )) ويقول بوانكاريه (( كل هندسة صحيحة، ما دامت لا تتناقض مع المسلمات التي انطلقت منها )).

خاتمة المقال

في الأخير وبعد هذا التحليل يصح لنا القول أنه رغم التغير الذي طرأ على عالم الرياضيات والمتمثل في ظهور الهندسات اللاإقليدية، إلا أن لغتها كانت العامل الرئيسي في تطور العلوم، فالمعرفة الرياضية هي ميدان المعقول المجرد المتحرر من كل مادة حسية، وأنها المعرفة التي تحتل النموذج الأرقى المعبرعن الدقة واليقين المطلق ، ولهذا صارت لغتها ضرورة يتطلع إلى إكتسابها كل تفكير علمي. يقول هنري بوانكاريه (( إن جميع القوانين مستخرجة من التجربة ولابد للتعبير عنها من إستعمال اللغة الخاصة، لأن اللغة العادية مبهمة جدا... إن الرياضيات هي اللغة التي يستطيع العالم أن يتكلم بها )) ، يقول بيرغسون (( إن العلم الحديث وليد الرياضيات، وإن أي علم ما كان لينشأ إلا يوم تمكن الجبر من إصطياد حقائق العلم وإيقاعها في شباكه)).


تستطيعون أيضا الإطلاع على العديد  المقالات الحصرية والجديدة والتي تساعدكم في الحفظ وتجاوز العقدة التي تتسبب فيها مادة الفلسفة بالنسبة للعديد من تلاميذ البكالوريا ، وأغلب هذه المقالات مقترحة بشدة 

إنطباق الفكر مع نفسه وإنطباقه مع الواقع مقالة بالمقارنة

مقالة جدلية حول الحقيقة العلمية

قيمة الفرضية

بالتوفيق لتلاميذنا الأعزاء في هذا الإمتحان المصيري.

تعليقات